الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال: المعنى: يسبني الناس حتى كليب، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة. وفي الآية دل ما قبلها عليها. انتهى الغرض من كلام أبي حيان، ولا يظهر عندي كل الظهور.بل الأظهر عندي: هو ما قدمتها وهو قول ابن عطية، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الكافر والمفرط في عمل الخير إذا حضر أحدهما الموت طلبا الرجعة إلى الحياة، ليعملا العمل الصالح الذي يدخلهما الجنة، ويتداركا به ما سلف منهما من الكفر والتفريط وأنهما لا يجابان لذلك، كما دل عليه حرف الزجر والردع الذي هو كلا جاء موضحًا في مواضع أخر كقوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَآ} [المنافقون: 10-11] الآية. وقوله تعالى: {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} [إبراهيم: 44] إلى غير ذلك من الآيات، وكما أنهم يطلبون الرجعة عند حضور الموت، ليصلحوا أعمالهم فإنهم يطلبون ذلك يوم القيامة ومعلوم أنهم لا يجابون إلى ذلك.ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف: 53] وقوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] وقوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 27-28] وقوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} [غافر: 11] وقوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}. [فاطر: 37] وقوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وقالوا آمَنَّا بِهِ وأنى لَهُمُ التناوش مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} [سبأ: 51-53] الآية. وقد تضمنت هذه الآيات التي ذكرنا، وأمثالها في القرآن: أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند حضور الموت، ويوم النشور ووقت عرضهم على الله تعالى، ووقت عرضهم على النار.وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف: وهو أن يقال: ما وجه صيغة الجمع في قوله: {رَبِّ ارجعون} ولم يقل: رب ارجعني بالإفراد.وقد أوضحنا الجواب عن هذا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وبيَّنَّا أنه يجاب عنه من ثلاثة أوجه:الاول: وهو أظهرها: أن صيغة الجمع في قوله: {ارجعون} لتعظيم المخاطب وذلك النادم السائل الرجعة يظهر في ذلك الوقت تعظيمه ربه، ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر حسان بن ثابت أو غيره: وقول الآخر يخاطب امرأة: والنقاخ الماء البارد والبرد: النوم، وقيل: ضد الحر. والأول أظهر.الوجه الثاني: قوله: {رب} استغاثة به تعالى، وقوله: {ارجعون}: خطاب للملائكة، ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير، عن ابن جريج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى دار الدنيا فيقول: إلى دار الهموم والأحزان، فيقول: بل قدموني إلى الله وأما الكافر فيقولون له: نرجعك؟ فيقول: رب ارجعون».الوجه الثالث: وهو قول المازني: إنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال: رب ارجعني ارجعني ارجعني، ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى. والعلم عند الله تعالى.وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {لعلي أَعْمَلُ صَالِحًا} [المؤمنون: 100] الظاهر أن لعل فيه التعليل: أي ارجعون، لأجل أن أعمل صالحًا، وقيل: هي للترجي والتوقع، لأنه غير جازم، بأنه إذا رد للدنيا عمل صالحًا، والأول أظهر، والعمل الصالح يشمل جميع الأعمال من الشهادتين والحج الذي كان قد فرط فيه والصلوات والزكاة ونحو ذلك. والعلم عند الله تعالى. وقوله: {كلا}: كلمة زجر: وهي دالة على أن الرجعة التي طلبها لا يعطاها كما هو واضح. اهـ.
فقال: سواكم، وقال جعفر بن علبة الحارثي من شعراء الحماسة: فقال: بعدكم، وقد حصل لي هذا باستقراء كلامهم ولم أر من وقَّف عليه.وجملة الترجي في موضع العلة لمضمون {ارجعون}.والترك هنا مستعمل في حقيقته وهو معنى التخلية والمفارقة.وما صدق {ما تركت} عالم الدنيا.ويجوز أن يراد بالترك معناه المجازي وهو الإعراض والرفض، على أن يكون ما صدق الموصول الإيمان بالله وتصديق رسوله، فذلك هو الذي رفضه كل من يموت على الكفر، فالمعنى: لعلي أسلم وأعمل صالحًا في حالة إسلامي الذي كنت رفضته، فاشتمل هذا المعنى على وعد بالامتثال واعتراف بالخطأ فيما سلف. ورُكب بهذا النظم الموجز قضاءً لحق البلاغة.و{كلاّ} ردع للسامع ليعلم إبطال طلبة الكافر.وقوله: {إنها كلمة هو قائلها} تركيب يجري مجرى المثل وهو من مبتكرات القرآن.وحاصل معناه: أن قول المشرك {رب ارجعون} إلخ لا يتجاوز أن يكون كلامًا صدر من لسانه لا جدوى له فيه، أي لا يستجاب طلبه به.فجملة {هو قائلها} وصف لـ {كلمة}، أي هي كلمة هذا وصفها.وإذ كان من المحقق أنه قائلها لم يكن في وصف {كلمة} به فائدة جديدة فتعين أن يكون الخبر مستعملًا في معنى أنه لا وصف لكلمته غير كونها صدرت من في صاحبها.وبذلك يعلم أن التأكيد بحرف إن لتحقيق المعنى الذي استعمل له الوصف.والكلمة هنا مستعمل في الكلام كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: وكما في قولهم: كلمة الشهادة وكلمة الإسلام.وتقدم قوله تعالى: {ولقد قالوا كلمة الكفر} في سورة براءة (74).والوراء هنا مستعار للشيء الذي يصيب المرء لا محالة ويناله وهو لا يظنه يصيبه.شبه ذلك بالذي يريد اللحاق بالسائر فهو لاحقه، وهذا كقوله تعالى: {والله من ورائهم محيط} [البروج: 20] وقوله: {ومن ورائهم جهنم} [الجاثية: 10] وقوله: {من ورائهم عذاب غليظ} [إبراهيم: 17].وتقدم قوله: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا} [الكهف: 79].وقال لبيد: والبرزخ: الحاجز بين مكانين.قيل: المراد به في هذه الآية القبر، وقيل: هو بقاء مدة الدنيا، وقيل: هو عالم بين الدنيا والآخرة تستقر فيه الأرواح فتكاشف على مقرها المستقبل، وإلى هذا مال الصوفية.وقال السيد في التعريفات: البرزخ العالم المشهود بين عالم المعاني المجردة وعالم الأجسام المادية، أعني الدنيا والآخرة ويعبر به عن عالم المثال. اهـ. أي عند الفلاسفة القدماء.ومعنى {إلى يوم يبعثون} أنهم غير راجعين إلى الحياة إلى يوم البعث.فهي إقناط لهم لأنهم يعلمون أن يوم البعث الذي وُعدوه لا رجوع بعده إلى الدنيا فالذي قال لهم {إلى يوم يبعثون} هو الذي أعلمهم بما هو البعث. اهـ.
|